فصل: لطيفة (في التوقيت وذكر مراكز الفريقين):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القاسمي:

{إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ}
{إِذْ أَنتُم} بدل من يوم الفرقان، أو ظرف لمحذوف، أي: اذكروا إذ أنتم يا معشر المؤمنين {بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا} يعين بشفير الوادي الأدنى من المدينة، {وَهُم} يعني المشركين أبا جهل وأصحابه {بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى} أي: البُعدَى عن المدينة، مما يلي مكة {وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ} أي: العير التي فيها أبو سفيان، بما معه من التجارة التي كان الخروج لأجلها، أسفل من موضع المؤمنين إلى ساحل البحر على ثلاثة أميال من بدر.

.لطيفة [في التوقيت وذكر مراكز الفريقين]:

قال الزمخشري: فإن قلت: ما فائدة هذا التوقيت، وذكر مراكز الفريقين، وأن العير كانت أسفل منهم؟ قلت: الفائدة فيه الإخبار عن الحال الدالة على قوة شأن العدوّ وشوكته وتكامل عدته، تمهّد أسباب الغلبة له، وضعف شأن المسلمين، والتباث أمرهم، وأن غلبتهم في مثل هذا الحال، ليست إلا صنعًا من الله سبحانه، ودليلًا على أن ذلك أمر لم يتيسر إلا بحوله وقوته، باهر قدرته، وذلك أن العدوة القصوى التي أناخ بها المشركون، كان فيها الماء، كانت أرضًا لا بأس بها، ولا ماء بالعدوة الدنيا، وهي خبارـ ما لان من الأرض واسترخى- تسوخ فيه الأرجل، ولا يمشي فيها إلا بتعب ومشقة، وكانت العير وراء ظهور العدو، مع كثرة عددهم، فكانت الحماية دونها تضاعف حميتهم، وتشحذ في المقاتلة عنها نياتهم، ولهذا كانت العرب تخرج إلى الحرب بظعنهم وأموالهم، ليبعثهم الذبّ عن الحريم، والغيرة على الحرب، على بذل جُهيداهم في القتال، وألا يتركوا وراءهم ما يحدّثون أنفسهم بالإنحياز إليه، فيجمع ذلك قلوبهم، ويضبط همومهم، ويوطن نفوسهم، على ألا يبرحوا موطنهم، ولا يُخلوا مراكزهم، ويبذلوا منتهى نجدتهم، وقصارى شدتهم، وفيه تصوير ما دبّر سبحانه من أمر وقعة بدر، ليقضي أمرًا كان مفعولًا، من إعزاز دينه، وإعلاء كلمته، حين وعد المسلمين إحدى الطائفتين، مبهمة غير مبينّة، حتى خرجوا ليأخذوا العير، راغبين في الخروج، وشخص بقريش مرعوبين مما بلغهم من تعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم لأموالهم، حتى نفروا ليمنعوا غيرهم، وسبب الأسباب حتى أناخ هؤلاء بالعدوة الدنيا، وهؤلاء بالعدوة القصوى، ووراءهم العير يحامون عليها، حتى قامت الحرب على ساق، وكان ما كان، انتهى.
قال الناصر في الإنتصاف: وهذا الفصل من خواص حسنات الزمخشري، وتنقيبه عن أسرار الكتاب العزيز.
وقوله تعالى: {وَلَوْ تَوَاعَدتَّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ} أي: ولو تواعدتم أنتم وأهل مكة على موعد تلتقون فيه للقتال، لخالف بعضكم بعضًا، فثبطكم قلتكم وكثرتهم، على الوفاء بالموعد، وثبطهم ما في قلوبهم من تهيّب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، فلم يتفق لكم من التلاقي ما وفقه الله وسبب له. قاله الزمخشري.
وفي حديث كعب بن مالك قال: إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون يريدون عير قريش، حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد.
وروى ابن جرير عن عمير بن إسحاق قال: أقبل أبو سفيان في الركب من الشام، وخرج أبو جهل ليمنعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فالتقوا ببدر، ولا يشعر هؤلاء بهؤلاء ولا هؤلاء بهؤلاء، حتى التقى السقاة وشهد الناس بعضهم إلى بعض.
{وَلَكِن لِّيَقْضِيَ اللّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} أي: ولكن جمع بينكم على هذه الحال على غير ميعاد، ليقضي ما أراد من إعزاز الإسلام وأهله، وإذلال الشرك وأهله، من غير ملأ منكم.
وقوله: {كاَنَ مَفْعُولًا} أي: حقيقًا بأن يفعل، وقيل: {كان} بمعنى صار، أي: صار مفعولًا، بعد أن لم يكن، وقيل: إنه عبر به عنه لتحققه حتى كأنه مضى.
وقوله تعالى: {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ} أي: إنما جمعكم مع عدوكم في مكان واحد على غير ميعاد، لينصركم عليهم، ويرفع حجة الحق على الباطل، ليصير الأمر ظاهرًا، والحجة قاطعة، والبراهين ساطعة، ولا يبقى لأحد حجة ولا شبهة، فحينئذ يهلك من هلك، أي: يستمر في الكفر من استمر فيه على بصيرة من أمره، أنه مبطل لقيام الحجة عليه، ويؤمن من آمن عن حدة وبصيرة ويقين، بأنه دين الحق، الذي يجب الدخول فيه، والتمسك به.
وذلك أن ما كان من وقعة بدر، من الآيات الغرّ المحجّلة، التي من كفر بعدها، كان مكابرًا لنفسه، مغالطًا لها.

.لطائف [في الآية]:

الأولى: قوله تعالى: {لِيَهْلِكَ} بدل من: {لِيَقْضِيَ} أو متعلق بـ: {مفَعْولًا}.
الثانية: الحياة والهلاك استعارة للكفر والإسلام، وقرئ: {ليهلَك} بفتح اللام.
الثالثة: {حَيَّ} يقرأ بتشديد الياء، وهو الأصل، لأن الحرفين متماثلان متحركان، فهو مثل شدّ ومدّ، ومنه قول عبيدة بن الأبرص:
عَيُّوا بأمرهِمُ كما عيـ ** ـيتْ بِبْيضتها الحمامَهْ

ويقرأ بالإظهار وفيه وجهان:
أحدهما: أن الماضي حمل على المستقبل، وهو يحيا، فكما لم يدغم في المستقبل، لم يدغم في الماضي، وليس كذلك شد ومد، فإنه يدغم فيهما جميعًا.
والوجه الثاني: أن حركة الحرفين مختلفة، فالأولى مكسورة، والثانية مفتوحة، واختلاف الحركتين، كاختلاف الحرفين، ولذلك أجازوا في الاختيار: لححت عليه، وضبب البلد، إذا كثر ضبه، ويقوي ذلك أن الحركة الثانية عارضة، فكأن الياء الثانية: ساكنة، ولو سكنت لم يلزم الإدغام، وكذلك إذا كانت في تقدير الساكن، والياآن أصل، وليست الثانية بدلًا من واو، فأما الحيوان، فالواو فيه بدل من الياء. وأما الحواء، فليس من لفظ الحية، بل من حوى يحوي إذا جمع- قاله أبو البقاء-.
{وَإِنَّ اللّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} أي: بكفر من كفر وعقابه، وإيمان من آمن وثوابه. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى}
{إذ} بدل من {يوم التقى الجمعان} [الأنفال: 41] فهو ظرف بـ {لأنزلنا} [الأنفال: 41] أي زمن أنتم بالعدوة الدنيا، وقد أريد من هذا الظرف وما أضيف إليه تذكيرهم بحالة حرجة كان المسلمون فيها، وتنبيههم للطف عظيم حفّهم من الله تعالى، وهي حالة موقع جيش المسلمين من جيش المشركين، وكيف التقى الجيشان في مكان واحد عن غير ميعاد، ووجَد المسلمون أنفسهم أمام عدوّ قوي العِدّة والعُدّة والمَكانة من حسن الموقع.
ولولا هذا المقصد من وصف هذه الهيئة لما كان من داع لهذا الإطناب إذ ليس من أغراض القرآن وصف المنازل إذا لم تكن فيه عبرة.
والعدوة بتثليث العين صفة الوادي وشاطئه، والضمّ والكسر في العين أفصح وعليهما القراءات المشهورة، فقرأه الجمهور بضمّ العين، وقرأه ابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب بكسر العين.
والمراد بها شاطئ وادي بدر.
وبدر اسم ماء.
{والدنيا} هي القريبة أي العدوة التي من جهة المدينة، فهي أقربُ لجيش المسلمين من العُدوة التي من جهة مكة.
و{العدوة القصوى} هي التي ممّا يلي مكة، وهي كثيب، وهي قصوى بالنسبة لموقع بلد المسلمين.
والوصف بـ {الدنيا} و{القصوى} يَشعُر المخاطبون بفائدته، وهي أنّ المسلمين كانوا حريصين أن يسبقوا المشركين إلى العدوة القصوى، لأنّها أصلب أرضًا فليس للوصف بالدنو والقصُو أثر في تفضيل إحدى العدوتين على الأخرى، ولكنّه صادف أن كانت القصوى أسعدَ بنزول الجيش، فلمّا سبق جيشُ المشركين إليها اغتمّ المسلمون، فلمّا نزل المسلمون بالعدوة الدنيا أرسل الله المطر وكان الوادي دَهْسًا فلبّد المطرُ الأرضَ ولم يعقهم عن المسير وأصاب الأرض التي بها قريش فعطّلهم عن الرحيل، فلم يبلغوا بدرًا إلاّ بعد أن وصل المسلمون وتخيروا أحسن موقع وسبقوا إلى الماء، فاتّخذوا حوضًا يكفيهم وغوروا الماء، فلمّا وصل المشركون إلى الماء وجدوه قد احتازه المسلمون، فكان المسلمون يشربون ولا يجد المشركون ماء.
وضمير {وهم} عائد إلى ما في لفظ {الجمعان} من معنى: جمعكم وجمع المشركين، فلمّا قال: {إذ أنتم بالعدوة الدنيا} لم يبق معاد لضمير {وهم} إلاّ الجمع الآخر وهو جمع المشركين.
و{الركب} هو ركب قريش الراجعون من الشام، وهو العِير.
{أَسْفَلَ} من الفريقين أي أخفض من منازلهما، لأن العيِر كانوا سائِرين في طريق الساحل، وقد تركوا ماءَ بدر عن يسارهم.
ذلك أنّ أبا سفيان لمّا بلغه أنّ المسلمين خرجوا لتلقي عيره رجع بالعير عن الطريق التي تمرّ ببدر، وسلك طريق الساحل لينجو بالعير، فكان مسيره في السهول المنخفضة، وكان رجال الركب أربعين رجلًا.
والمعنى: والركب بالجهة السفلى منكم، وهي جهة البحر وضمير {منكم} خطاب للمسلمين المخاطبين بقوله: {إذ أنتم بالعدوة الدنيا} والمعنى أنّ جيش المسلمين كان بين جماعتين للمشركين، وهما جيش أبي سفيان بالعدوة القصوى، وعير القوم أسفل من العدوة الدنيا، فلو علم العدوّ بهذا الوضع لطبّق جماعتيه على جيش المسلمين، ولكن الله صرفهم عن التفطّن لذلك وصرف المسلمين عن ذلك، وقد كانوا يطمعون أن يصادفوا العير فينتهبوها كما قال تعالى: {وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم} [الأنفال: 7] ولو حاولوا ذلك لوقعوا بين جماعتين من العدوّ.
وانتصب {أسفل} على الظرفية المكانية وهو في محلّ رفع خبر عن (الركب) أي والركب قد فاتكم وكنتم تأملون أن تدركوه فتنتهبوا ما فيه من المتاع.
والغرض من التقييد بهذا الوقت، وبتلك الحالة: إحضارها في ذكْرهم، لأجل ما يلزم ذلك من شكر نعمة الله، ومن حسن الظنّ بوعده والاعتماد عليه في أمورهم، فإنّهم كانوا حينئذ في أشدّ ما يكون فيه جيش تجاه عدوّه، لأنّهم يعلمون أنّ تلك الحالة كان ظاهرها ملائِمًا للعدوّ، إذ كان العدوّ في شوكة واكتمال عدّة، وقد تمهدت له أسباب الغلبة بحسن موقع جيشه، إذ كان بالعدوة التي فيها الماء لسقياهم والتي أرضها متوسّطة الصلابة، فَأما جيش المسلمين فقد وجدوا أنفسهم أمام العدوّ في عدوة تسوخ في أرضها الأرجل من لين رمْلها، مع قلّة مائِها، وكانت العير قد فاتت المسلمين وحلّت وراء ظهور جيش المشركين، فكانت في مأمن من أن ينالها المسلمون، وكان المشركون واثقين بمكنة الذبّ عن عيرهم، فكانت ظاهرةُ هذه الحالة ظاهرةَ خيبة وخوف للمسلمين، وظاهرةَ فوز وقوة للمشركين، فكان من عجيب عناية الله بالمسلمين أن قلب تلك الحالة رَأسًا على عَقب، فأنزل من السماء مطرًا تعبّدت به الأرض لجيش المسلمين فساروا فيها غير مشفوق عليهم، وتطهّروا وسَقَوا، وصَارت به الأرض لجيش المشركين وحلًا يثقل فيها السيرَ وفاضت المياه عليهم، وألقى الله في قلوبهم تهوين أمر المسلمين، فلم يأخذوا حذرهم ولا أعدّوا للحرب عدّتها، وجعلوا مقامهم هنالك مقام لهو وطرب، فجعل الله ذلك سببًا لنصر المسلمين عليهم، ورأوا كيف أنجز الله لهم ما وعدهم من النصر الذي لم يكونوا يتوقّعونه.
فالذين خوطبوا بهذه الآية هم أعلم السامعين بفائدة التوقيت الذي في قوله: {إذ أنتم بالعدوة الدنيا} الآية.
ولذلك تعيّن على المفسّر وصف الحالة التي تضمنّتها الآية، ولولا ذلك لكان هذا التقييد بالوقت قليل الجدوى.
وجملة {ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد} في موضع الحال من {الجمعان} [الأنفال: 41] وعامل الحال فعل {التقى} [الأنفال: 41] أي في حال لقاء على غير ميعاد، قد جاء ألزم ممّا لو كان على ميعاد، فإنّ اللقاء الذي يكون موعودًا قد يتأخّر فيه أحد المتواعدَين عن وقته، وهذا اللقاء قد جاء في إبان متّحد وفي مكان متجاور متقابل.
ومعنى الاختلاف في الميعاد: اختلاف وقته بأن يتأخّر أحد الفريقين عن الوقت المحدود فلم يأتوا على سواء.
والتلازم بين شرط {لو} وجوابها خفي هنا وقد أشكل على المفسّرين، ومنهم من اضطرّ إلى تقدير كلام محذوف تقديره: ثم علمتم قلّتكم وكثرتكم، وفيه أنّ ذلك يفضي إلى التخلّف عن الحضور لا إلى الاختلاف.
ومنهم من قدر: وعلمتم قلّتكم وشعر المشركون بالخوف منكم لِما ألقى الله في قلوبهم من الرعب، أي يجعل أحد الفريقين يتثاقل فلم تحضروا على ميعاد، وهو يفضي إلى ما أفضى إليه القول الذي قبله، ومنهم من جعل ذلك لما لا يخلو عنه الناس من عروض العوارض والقواطع، وهذا أقرب، ومع ذلك لا ينثلج له الصدر.
فالوجه في تفسير هذه الآية أنّ {لو} هذه من قبيل (لو) الصُهَيْبِية فإنَّ لها استعمالات ملاكها: أن لا يقصد من (لو) ربطُ انتفاء مضمون جوابها بانتفاء مضمون شرطها، أي ربط حصول نقيض مضمون الجواب بحصول نقيض مضمون الشرط، بل يقصد أنّ مضمون الجواب حاصل لا محالة، سواء فرض حصول مضمون شرطها أو فرض انتفاؤه، إمّا لأنّ مضمون الجواب أولى بالحصول عند انتفاء مضمون الشرط، نحو قوله تعالى: {ولو سمعوا ما استجابوا لكم} [فاطر: 14]، وإمّا بقطع النظر عن أولَوية مضمون الجواب بالحصول عند انتفاء مضمون الشرط نحو قوله تعالى: {ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه} [الأنعام: 28].